المربّية- قصة قصيرة للكاتبة الفنلندية مينا كانت

نشرت قصة المربّية أول مرة سنة 1887 في مجلة (الوسط الفنلندي), وتُعتبر واحدة من القصص الكلاسيكية الفنلنديّة.

-إيمي, استيقظي, ألا تسمعين الجرس؟ السيّدة تريدك. يا إلهي, لا شيء يوقضها! إيمي.. إيمي!

على الأقل نجحت سيليا بزحزحة إيمي التي نهضت وغمغمت بشيء ما وفركت عينيها, كانت لا تزال نعسة للغاية.

-كم الساعة؟
-توشكُ أن تكون الخامسة فجراً.

الخامسة! استغرق نومها ثلاثُ ساعات. كانت الساعة الواحدة والنصف مساءاً حين أنتهت من غسل الصحون، وكالعادة كان هناك ضيوف ذلك المساء, وليومين متتاليين كان عليها السهر لرعاية الطفلة, فالسيّدة خرجت لحضور عرس والطفلة ليلي لم تقبل ببضع قطع الحلوى كترضية. فهل كان غريباً أن تنام إيمي كلّ هذا الوقت؟

كانت في عمر الثالثة عشر, تُعاني من الآم حادّة في ساقها كلّ صباح لدرجة لا تقوَ فيها على النهوض. تخبرها سيليا, التي تتشارك معها السرير, أن هذه الآلام ناتجة عن عملية النمو وأنها يجب أن توخز ساقيها لتنزفا, لكن إيمي تخشى ألم هذه العمليّة. كانت ساقيها نحيلتين بما يكفي دون نزيف ولم تكونا تؤلمانها أثناء النوم, لكن في اللحظة التي تصحو فيها تعاود ألمها, ولو أنها تخطط للعودة للنوم سيزول الألم مباشرة.

الآن, وبعد أن استيقظت وعدلت في السرير بدأتا تؤلمانها, من الركبة وحتى أخمص الكعب, وشعرت بأن رأسها المُثقل يجذبها إلى السرير, حاولت كثيراً لكنها لم تكد ترفعه. ألا يمكنها بكلّ حياتها هذه, أن تحظى بصباح واحد تنام فيه بطمأنينة وبالقدر الذي تشاءه؟

دلّكت إيمي ساقيها فمال رأسها إلى الأمام ولامس ذقنها صدرها ولم تعد قادرة على فتح عينيها, وخلال لحظات كانت قد استسلمت للنوم مجدّداً.

رنّ الجرس للمرة الثانية, فراحت سيليا تدفعها بقوّة.

-يا للجحيم! ألا يمكن لهذه العاهرة أن تطيع؟ هيا إنهضي!

ثم دفعتها مجدّداً, تألمت إيمي وأخذت بالبكاء.

-كم رفسة تحتاجي كي تنهضي؟

انزلقت ببطيء عن السرير وهي تشعر بدوخة وعلى وشك السقوط أرضاً.

-رشّي بعض الماء البارد على وجهك, هذا سيصحصح عقلك. نصحتها سيليا.

لكن إيمي لم تكن تملك وقتاً لذلك, فالجرس كان يرن مجدداً, لبست ملابسها الداخليّة والتنورة وسرّحت شعرها بكلتا يديها ثمّ انطلقت مسرعة.

-لقد طرقت الجرس لثلاث مرّات. قالت السيّدة.

لم تعلّق إيمي بأي شيء, لكنها ببساطة أخذت الطفلة من جانب السيّدة وأحاطتها بذراعيها.

-قومي بتغيير حفاظتها المبلّلة وضعيها في مهدها, هي لن تغفو إن بقيت قربي على أيّ حال.

أدارت السيّدة ظهرها وأغلقت عينيها. كان المهد في الغرفة المجاورة حيث تقوم إيمي بحمل الطفلة بين يديها الآن, كانت قد غيّرت حفاضتها وأخذت تهزهز المهد وتغنّي, ولطالما كانت تأتيها الأفكار أثناء ذلك, ليست بأفكار مهمّة, ولكنها كانت كافية لتشوّش غناءها.

"هش.. هش, نامي أيتها الصغيرة
شيء ما يؤرجح الطفلة أعلى الشجرة,
حين تمرّ الرياح
وتلامس المهد أعلى الشجرة,
تتأرجح الطفلة.
وداعاً يا دمى الطفلة,
بابا خرج للصيد,
وسيليا لا تزال نائمة في فراشها,
وبابا خرج للصيد, هش.. هش..".

غفت ليلي, وتمدّدت إيمي على الأرضية قرب المهد واضعة إحدى يديها أسفل رأسها ثم غطّت بالنوم, بعد لحظات فاقت ليلي مجدداً, أخذت تحكّ أنفها وتتطلع حولها بحيرة وبدا أن لا أحد كان بجوارها, حاولت النهوض والجلوس لكنها لم تستطع, بدل ذلك أدارت وجهها للطرف الآخر للمهد فرأت إيمي, انتفضت بسعادة وحاولت الخروج للمسها, حينها سقطت وارتطمت جبهتها بأسفل المهد، بصرخة مدوية استيقظ الجميع.

-ارحمنا يا مسيح!

وجدت إيمي الطفلة قربها وقد بدت بيضاء مثل ورقة, أخذتها عن الأرض وراحت تهدهدها وتدفئها وتأرجحها بين يديها, كانت تسيطر عليها فكرة مخيفة بأن السيّدة قد سمعت صراخها, وتحت تأثير هذا الفزع لم يخطر لها أن تتفحص الطفلة أو تهتدي لسبب بكاءها إن كانت قد تأذت أو أنها تبكي بسبب الصدمة.

فتحت السيّدة الباب, وسيطر على إيمي شعور بالإغماء, بدا العالم بأكمله أسود بعينيها.

-ما الذي حدث لها؟

-لا شيء

لم تعرف إيمي بما تجيب, واكتفت بأن تقول تلقائياً أي شيء, أي شيء بإمكانه أن ينقذ حياتها.

-إذا لمَ تبك بهذه الحرقة, ها؟ لا بد من سبب

كانت إيمي تقوم بمحاولات يائسة لتهدئة الطفلة.

-أعطني إياها

قالت السيّدة.

-يا طفلتي المسكينة, يا غالية, ما الخطب؟ يا إلهي! هناك كدمة كبيرة على جبهتها

نظرت إلى إيمي التي وقفت عاجزة هناك.

-من أين جاءت هذه الكدمة؟ أخبريني, أريد أن أعرف, هل أنت بلهاء؟

-لا أعرف..

-أوقعتها عن المهد, أكيد, أليس كذلك؟

لم تقل إيمي أيّ شيء وأخذت تحدّق في الأرضيّة.

-اسمعي, لم يعُد بإمكانك نكران أنك مُهملة وعديمة الفائدة. توقعين الطفلة ومن ثمّ تكذبين عليّ. حقاً نادمة أني أحضرتك للخدمة هنا. حسناً, أخبرك بهذا الآن: لن تبقى هنا السنة القادمة, إذهبي وجدي لنفسك عملاً جديداً, وأياً كان من سيأخذك فلا أبالي, أفضّل ألّا استعين بمربية أبداً. هش.. هش عزيزتي, يا حبيبة ماما, أجل.. أمك ستحضر مربيّة جديدة للسنة المقبلة, لا تبكِ.. لا تبكِ.

سكتت ليلي بعد أن تلقمت ثدي أمها وراحت ترضع, وما هي إلا لحظات حتى ارتسمت على وجهها ابتسامة رضا رغم أن الدموع كانت لا تزال تترقرق في عينيها.

-ها هي صغيرتي الغالية, أتعطين ماما ابتسامة جميلة؟ يا ابنتي العزيزة, كم هي حلوة؟ يا لها من كدمة فضيعة على جبهتك صغيرتي!

لم تبكِ ليلي طوال اليوم, بدت سعيدة كالمعتاد, بل ربما أسعد هذه المرّة, كانت تبتسم لإيمي, تضع أصابعها في فمها وتشدّ شعرها. تركت إيمي يد الطفلة النحيلة تداعب خدّها المبتلّ بدموعها التي كانت تنساب مثل تساقط توت بريّ, وحين راودتها فكرة أنها بعد ستة أسابيع سوف لن تتمكن من احتضان هاتين اليدين الناعمتين والنحيلتين أو حتى رؤيتها, سوى بضع نظرات خاطفة من خلال النافذة مثل كائن مهمّش وغير مرغوب, حين راودتها هذه الأفكار, أو المشاعر, بكت بحرقة وتحولت دموعها المنسابة مثل نهر إلى بقعة بلل كبيرة فوق الطاولة.

-أوه, أنظري لهذا صغيرتي! تحدث لليلي التي كانت تمرر كفها على البقعة.

لاحقاً عند الصباح, زار السيّدة ضيفان, السيدة  فينتر زوجة الطبيب والسيدة سيفين زوجة المدير وهو رجل مرموق ومعروف جداً. لم تبدوا مسنتان كسيّدة المنزل, هذا ما قالته سيليا ووافقته إيمي.

حين دخلت سيليا الصالة لتقديم القهوة, همست لها السيّدة بأن على إيمي تجهيز الطفلة لتريها للسيدتين. ألبستها إيمي أفضل قلنسوة عندها, وصدرية مطرزة يدويّاً, بدت الطفلة جميلة للغاية, وصاحت إيمي سيليا لتلقيان عليها نظرة قبل أن تحملها لمقابلة الضيوف.

وحين دخلتا, أبدت السيّدان إعجابهما الشديد.

-أوه, كم هي جميلة!

ثم أخذتها بلهفة وراحتا تداعبانها وتقبلانها بابتسامات مرحة.

-يا حلوة.. يا حلوة

وقفت إيمي بعيدة وأخذت تبتسم, هي لم تفهم ما كانتا تقولانه, لكنه بدا بوضوح ثناءاً لطيفاً للطفلة.

لكن وجوههم بدت جدّية فجأة وأخذت السيّدة تخبرهم بشيء لم تتمكن إيمي من فهمه, كانت تحدثهم بالسويديّة, لكنها فهمت حين رأت الرعب المرسوم على وجوههم.

-يا إلهي! يا حبيبتي, أيتها المسكينة!

حدّقت عيونهنّ بشفقة وفزع إلى جبهة ليلي, ثمّ تحولت لتنظر بغضب إلى إيمي.

-يا للحقارة

حدّقت إيمي إلى السجادة التي تتوسّط الصالة وتمنّت لو أن شيئاً ينزل من السقف على رأسها ويفتفتها إلى قطع ويحشرها في جوف الأرض, فقد كانت في تلك اللحظة أخبث وأحقر كائن بينهن!. لم ترفع عينيها لكنها أحسّت بنظراتهن الموجّهة صوبها. هؤلاء النساء الذكيات والمحترمات, واللاتي لم يقمن بأي عمل سيء طوال حياتهّن, كيف لهنّ بكل هذه الحكمة والذكاء أن يكنّ بشر عاديّات؟

-خذي ليلي. أمرتها السيّدة

فجأة أحسّت إيمي أن يديها ضعيفتان للغاية, وخشت أن تفلت الطفلة وتوقعها إن هي حملتها.

-ألم تسمعي؟

-خذيها, انظري كيف تبدو. قالت السيّدة بالسويديّة

ترنّحت إيمي وبطريقة ما سيطرت على خطواتها ومضت إلى حيث تجلس السيّدة. كانت لهفتها بأن تخرج عن دائرة الضوء هذه والعودة لمهنتها كمربية هي ما أعطاها القوة لتمارس وظيفتها بشكل طبيعي. أم أن يديها تطيعان ما تؤمران به كما اعتادتا دائماً؟

وضعت ليلي في مهدها وجلست على كرسي قربها لتريها دمية, لكن ليلي رفعت ساقيها في الهواء وأمسكتهما بيديها, وجدت اللعبة مسلّية للغاية وأخذت تضحك بأعلى صوتها, ضحكت إيمي أيضاً كذلك غصة علقت في حنجرتها ومنعتها من مواصلة الضحك.

جلست هناك وتذكرت فجأة أنها لم تقم بخدعتها المعتادة هذا الصباح, فقد اعتادت أن توخز نفسها وتجرحها بالإبرة كي تبقى يقظة, لذلك حدث كل هذا؛ الكارثة التي لا حلّ لها والتي ستبعثر حياتها.

لاحقاً في المساء, حين نام الجميع, خرجت إيمي إلى الباحة, كان كل شيء رماديّ في ضوء الليل الشاحب, وفي الأعلى كانت النجوم تلتمع, جلست على الأرض وراحت تفكّر بحاضرها وأيامها المقبلة, لم يكن ذاك النوع من التفكير الذي يساعد في حلّ الأمور, لكنه كان معتماً ورمادياً مثل سماء هذا المساء تماماً.
طرحت أفكارها جانباً للحظة,  ونظرت للسماء الرماديّة المزرقّة, كانت شموع الجنة تبرق وتتوهجّ, تساءلت: "كم هي سعيدة الأرواح في الأعلى مع النجوم؟ والأحياء الآن, من منهم يرغب بالانضمام لهذه الأرواح؟  هل ستكون هناك أي مربّيات؟  سألت نفسها بتردّد. لكن النبلاء سيكونوا هناك بلا شك, جميعهم. هذا أكيد, ما داموا هم الأفضل هنا أيضاً. ثمّ تساءلت عمّن يضيء هذه الشموع  كلّ مساء, الملائكة أم البشر العاديّين؟ أم أن جميع البشر يتحولون بدورهم إلى ملائكة حالما يصعدون إلى السماء؟ وماذا عن الذين توافيهم المنيّة صغاراً؟ من يربيهم ويعتني بهم؟ لكن ربما هم لا يعودوا بحاجة لأي رعاية طالما وصلوا إلى الجنّة".

فتحت سيليا الباب وسحبتها للداخل.

-لماذا تجلسين في الخارج بحق الجحيم, وبهذا الطقس البارد؟

تعرّت إيمي واستدارت إلى سيليا متسائلة: لماذا نحن الخادمات ملعونات لهذه الدرجة؟
-ألا تعرفين؟
-لا
-سأخبرك.. هذا لأننا نبقى يقظات لوقت طويل جداً, لدينا الكثير من الوقت لارتكاب الخطايا, ضعف ما يرتكبه الآخرون. اسمعي, النبلاء مثلاً ينامون صباحاً, حتى الساعة التاسعة أو العاشرة, وهكذا لن يتبقى لهم الكثير من الوقت ليرتكبوا أفعالاً سيّئة.

حسناً, لربما كان هذا صحيحاً, لو أنها نامت بشكلٍ جيد ذلك الصباح لما غفلت عن ليلي وهي تسقط عن مهدها. حدث كل ذلك بسببها.

                                    ***

كان الأحد التالي هو اليوم الثالث للالتحاق بالوظائف, قامت السيّدة بإعطاء إيمي كتاب التوظيف وإرسالها إلى الكنيسة.

كان هناك الكثير من الناس خارج الكنيسة؛ بعضهم راغبون في العمل والبعض الآخر يبحث عن عمّال وخدم, وقد تجمعوا في جماعات كبيرة متفرّقة, بدا أن لجميعهم أصدقاء وأقارب ومعارف وكل واحد فيهم في منافسة مع الآخر.

أحسّت إيمي بالوحشة والوحدة, وتساءلت: من يرغب في توظيف فتاة ضعيفة مثلها؟

استندت إلى حائط باحة الكنيسة ومعها كتاب التوظيف وراحت تنتظر. كان النساء والرجال يمرون من أمامها ذهاباً وإيّاباً دون أن يلمحوها حتّى.

كانت هناك مجموعة من الشبّان عند أدراج الكنيسة.

-تعالي إلى هنا أيتها الفتاة. قال أحدهم وضحك الآخرون وأخذوا يتهامسون فيما بينهم.

-تعالي.. تعالي, ما الذي تنتظرينه؟ تعالي وأجلسي معنا.

احمرّت إيمي وأشاحت بوجهها. وإذ ذاك لمحت امرأة ورجل قادمان صوبها. لم يكونا على قدر من الرقيّ: كانت السيّدة تضع وشاحاً على رأسها, وبدت ملابس الرجل بالية للغاية.

-وماذا عن هذه؟ قال الرجل وهو يشير إلى إيمي بعصاه.
-على الأقلّ لا تبدو أنها ستطلب أجراً عالياً. ها؟
-ادفع لي ما تشاء. قالت إيمي بهدوء. سأقنع بذلك.

وارتسمَ  بعض الأمل الخجول على وجهها.

-ما الجيد الذي ستقدّمه؟ سيصعب عليها تقديم كأس ماء. قالت السيّدة

-أجل, يمكنني ذلك
-وهل يمكنك غسل الصحون؟
-أجل, لقد قمت بذلك من قبل أيضاً
-لنوظفها, تبدو هادئة ونظيفة. قال الرجل.
لكن السيّدة كانت لا تزال متشككة.
-تبدو لي مريضة, أنظر كم هي نحيلة

فكّرت إيمي بساقيها, لكنها أصرّت ألّا تذكر الأمر, فلو فعلت ستفقد هذه الفرصة بالتأكيد.

-هل أنت مريضة؟. استفسر الرجل وهو يُطالع كتاب التوظيف الذي انتزعه من بين يديها.
-لا. همست إيمي.

كانت قد قررت ألا تشتكي من ساقيها مهما آلمتاها لاحقاً.
وضع الرجل كتاب التوظيف في جيبه ومنحها ماركين كبداية عمل, وهكذا حُسم الأمر.

-تعالي إلى كارفونين في مساء يوم القدّيسين, واسألي عن السيد والسيدة هارتونين.
-تذكري, في يوم جميع القدّيسين. قالت السيّدة.

ثمّ عادت إيمي إلى المنزل.

كان وجهها محمرّاً, لكنها سرعان ما تداركت نفسها وقالت:
-حسناً, من الصعب إيجاد هذا النوع من العمل, لم يكُن هناك ما يكفي من الموظّفِين لاختيارنا. بعض الناس كانوا مجبرين على قبول العمل مع الأسوأ وهم يشكرون حظّهم أنهم لن يباتوا الليل في الشارع.

ثمّ أخذت ليلي بين ذراعيها ودفنت وجهها في جسد الطفلة الدافئ, قبضت ليلي على خصلات من شعر إيمي بكلتا يديها وراحت تقهقه وتردّد: تا تا تا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البرج- قصة قصيرة من فنلندا

أربع قصائد للشاعر الفنلندي بو كاربيلان