البرج- قصة قصيرة من فنلندا

أثناء تمشّينا يوم الأحد، وجدنا أنفسنا ،أنا ودونيا كيخوته، في متنزه يرتفع في وسطه برج من الطوب الأحمر. كان البرج يحتوي على شرفة. يتوهج طوبه بحرارة مترفة كاللتي تنبعث من الأرض في فصل الصيف.
خلف البرج، ينقسم المتنزه إلى شقّين بطريق خرسانيّ واسع يسترح أسفله نفق مرور، وأبعد من ذلك تنمو شجيرات القيقب أعلى المنحدر. كانت الشجيرات تبدّل الوانها: كان لونها الأخضر قد بدأ رحلة تلاشيه الطويلة.
-"تعالي نجلس في الظلّ" قالت دونيا كيخوته. "حيث بإمكاننا رؤية البركة".

كانت البركة تشبه عيناً طمسها الماء الأبيض، موحلة وطافحة بالأعشاب، تصدر منها نفحة هواء لطيفة، كأنها خارجة عن كأس نبيذ معتّق.

-"كان هناك قاتل في هذا المتنزه فيما مضى". قالت دونيا كيخوته. "قرأت عنه في إحدى الجرائد منذ زمن بعيد للغاية".
-"من كان الضحية"؟ سألتُ وأنا ألعب بورقة من شجرة القيقب.
-"فتاة" قالت. "أُغتُصبت وتم خنقها من قبَل فتى لم تكن قد التقته من قبل. ربما كنت سأنسى الخبر بسرعة لو لا أن عبارة مؤكدة عصف صداها في رأسي".
سألتها عن العبارة عندما واصلت صمتها.
-"لا تضربني أكثر فأنا ميّتة بالفعل". قالت دونيا كيخوته.
-"أنظري، إنه يعسوب!" قلتُ وأنا أشير لكائن شبيه بأبرة زرقاء حطّ على كُمّ دونيا كيخوته.
تأملَت الحشرة وهي تستريح. على طريق المرفأ أطلقت أحدى الترامات صفيراً عالياً فأنتصب اليعسوب بشكل عموديّ في الهواء وبقي جامداً للحظات ثم أنطلق بعيداً.
وثبت دونيا كيخوته وقالت:
-"لنتمشَ حول البرج".
مشينا حوله، كان البرج ذا ثماني أوجه وثلاث طوابق وباب واحد مغلقٌ بإحكام. من بناه؟ ولأي غرض؟ لا نعرف على وجه التحديد، لكنه يكاد يكون جزءاً أصيلاً من المشهد وكأنه قد نبت هناك وأن لديه جذوراً في المكان.
مشت دونيا تجاهي بخطواتٍ طويلة، كانت فارعة الطول وصلبة وكأنها البرج بذاته.
-"أيجدر بنا المغادرة"؟ أقترح عليها لكنها بدت وكأنها لم تسمع.
-"هل تفهمين ما عنته"؟ سألت دونيا كيخوته بينما كانت لا تزال واقفة هناك.
-"ماذا"؟
-"أقصد ما قالته الفتاة. هل سمعتِ ما يقوله الأطفال أثناء لعبهم الغمّيضة؟ هل سمعتِ كيف يصرخ أحد الأطفال من مخبئه (أنا لستُ هنا)"؟ أما الفتى القاتل، فإنه سيمشي دوماً حول هذا البرج وسوف ينشطر ما يره إلى مشهدين.
"لكن ألا تؤمنين بشيء كالتصالح، حسناً ليس التصالح ما أقصد، لكن شيئاً كالنسيان أو المغفرة؟"غير أن دونيا كيخوته لم تُجب، بل أشارت لليعسوب الذي حطّ على كتفها مرة أخرى وأبرق غشاء جناحيه الشفّاف.







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أربع قصائد للشاعر الفنلندي بو كاربيلان

المربّية- قصة قصيرة للكاتبة الفنلندية مينا كانت