الشجرة الأخيرة- بينتي هانبا (قصة قصيرة فنلندية)



سقط يوهو بيرنو, العجوز الضخم, بتثاقل على الأرض المغطاة بالصقيع, أخذ يلهث ويتحسس صدره بيده التي اخرجها من قفازه الشتوي, كانت يديه بيضاء كأرضية الغابة. كان الألم في مكان ما داخل صدره, ألم غير مُحتمل. لكنه أخذ بالتلاشي شيئاً فشيئاً وصار بمقدور العجوز التنفس بسلاسة, فملأ غليونه ببعض الطحالب المجففة وأخذ ينفث فيه.
كانت روحه متعبة, ابرقت الافكار الحزينة في رأسه, بأنه وقت الرحيل, بإنه الوقت لترك كل شيء دفعة واحدة, فإنجازه في العمل لم يعد جيّداً, ولم يكن كذلك منذ وقت طويل, لقد أصبح ضعيفاً وبطيئاً. "إنه مريض في عمله", هذا ما يمكن للمرء قوله عن طريقة العجوز في تقطيع الخشب, كما أن ضربات فأسه لم تعد ضربات حقيقية, مجرد ضربات عابثة. ينتج عنها أكوام ضخمة نشار الخشب وإرهاق أكثر من أي وقتٍ مضى. كان عليه التصالح مع حقيقة أن زمانه قد مضى, أن الغابة لم تعد مكانه, ولا أيّ مكان آخر, وأنه يشارف على النهاية...
مثل هذه الأفكار كانت قد راودته من قبل, لكنه كان يشعر بأنه ما يزال قوياً وصلباً. وكانت النشارة تتطاير, والأشجار تتساقط والأكوام تعلو أكثر فأكثر. ولم يكن هناك جدوى من الاستغناء عن هذا الترف. لكن بيرنو الحطّاب العجوز, أدرك فجأة وبيقين, أن عليه التوقف, بهذه اللحظة بالذات. لكنه رغب بإسقاط شجرة أخرى, الشجرة التي هناك, والتي من المفروض قطعها كما تشير العلامة المرسومة عليها. وهكذا, أزاح العجوز بيرنو الرماد من غليونه, وأخذ منشاره يطنّ ويصفّر في أسفل الشجرة الأخيرة.
طوال حياته, كان يوهو بيرنو قد قطع واسقط الكثير من الأشجار العملاقة, هذه التي يقطعها الآن هي الأخيرة, لكنه غير قادر على تذكر الأولى, التي اسقطها على الأرض منذ أكثر من خمسين عام. ما نوع تلك الشجرة؟ أين كانت؟ حدث ذلك في مكان بعيد في الجنوب, حين كان لا يزال ولداً...
لاحقاً, لم يقم بيرنو بأكثر من اسقاط الشجر, من نوع الخشب البكر الغضّ, الأخشاب المقطّعة, لبّ الأخشاب وحُزم الأغصان, وكلّ ما كان يجب قطعه. في أغلب أوقات الصيف والربيع, كان يسحب جذوع الشجر على طوال الأنهار والبحيرات الهائجة, يمشي مثل مفجوع في موكب جائزي, وخلفه هذه الجثامين الخشبية التي يمكن لها أن تسافر كل العالم لو أنها تُركت تجري مع هذه الشلالات.
ثم بعد ذلك, عاد إلى عمله الأبدي في تقطيع الأشجار. كان قد قطّع أيضاً كماً هائلاً من الحطب, والذي تفرقع لاحقاً في مواقد البيوت, سخّن الغلايات البخارية, قاد القطارات حتى تصاعد منها بخار اسود. كان قد قطّع الكثير من الخشب لأستعماله ككربون أسود لأغراض الحدادة, وفي آونته الأخيرة, حرّك هذا الكربون السيارات على الشارع العام.
وهكذا, كانت قاطع الأخشاب ومسقّط الأشجار هي مهنتا يوهو بيرنو. ولم يكتف بهذا النصيب من العمل, بل أطاح أرضاً وعرّى أقدر مخلوقات الشمال وكأنها ألدّ أعداءه.غير أن ذلك لم يكن كما يبدو. فلطالما شعر بصلة ما تربطه بالأشجار, وأن هسهسة الغابة تطمأنه وتسكّن مخاوفه ومرارته في كفاحه مع الحياة.
هذا ما كانت عليه حياة بيرنو, كفاح وصراع مُستمر مع الحاجة والفقر, ذلك أن إسقاط الأشجار لم يكن يدرْ بالكثير من المال, وأن حياة الحطّاب التي يعيشها منذ شبابه وحتى اللحظة غير مُستقرّة. لاحقاً كان قد بنى كوخاً مربعاً من الخشب, حيث يمكنه أن يعود من رحلات اسقاطه للاشجار, فتكون في استقباله زوجته وأطفاله الذين يعتاشون على تعبه.
أعالت فأس بيرنو ومنشاره ما لا يقلّ عن أربعة أولاد, الذين التهمتهم الحرب لاحقاً من صغيرهم وحتى كبيرهم. ألقى هذا القدر بضلاله الكئيبة المثقلة على سنوات العجوز الأخيرة, كآبة لم تتمكن هسهسة الغابة من تبديدها, أن تصل هذا العمر بعد المرور بفقر مدقع لا يمكن إلا لبيرنو فهمه, ثمّ أن يتم جرجرتك إلى ميدان قتال مثل حيوان سيتم ذبحه: كانت الدماء مُستنفذة من أجسادهم, مثل حبة ندى على أيكة, لاحقاً تم ارسال الجثث إلى الوطن لدفنها في مقبرة الأبطال الكبرى.
راودت هذه الأفكار الصبيانية فكر العجوز بيرنو لأكثر من مرة: بأن أكثر الأشجار التي أسقطها هي تلك التي كانت الأقرب لقلبه, ولذا لم يقدّر لأولاده أن يموتوا مثل سائر الناس, بل سقطوا في الحرب مثل الأشجار. "سقط آنتي بيرنو في سوفاري" هذا ما يمكن قراءته على صليب أبيض بين طوابير من الصلبان المُتراصّة. وكأن الأمر كان بحاجة لتأرجح فأس الأب بيرنو حتى يتم.
هذا ما كان عليه هذا الجزء من العالم! تسقط الأشجار ويسقط الرجال. وفي حال لم تُرسل السماء صقيعها القاتل, فإن الناس يُنظمون حياتهم ببساطة لتلافي الجوع.
والآن, لم تعد هناك الكثير من الأمور التي من الممكن أن تحدث لهذا العجوز, حيث سقطت شجرته الأخيرة مُحطمةً على الأرض وتناثرت طبقات الصقيع الأبيض التي كانت تغلّفها مثل نفثة دخان في الجوّ. تملّكته الرغبة حينها أن يذهب إلى كوخه المنعزل وأن يعيش ما تبقى من حياته هناك, وأن يستلم معاش أبطاله الشهداء, لكن الكوخ كان وحيداً ومقفراً, حتى زوجته ماري بيرنو كانت قد توفيت ووارت التراب.حدث ذلك حين سقطت صخرة صغيرة, مثل شاهد قبر, على بطنها, ولم يكن هناك من طريقة للنجاة. هل كانت لترغب في العودة؟ إنه لمن السهل على المرء تصديق ذلك..
حتى ذلك الوقت, لم يكن بيرنو مؤمناً على أية حال, كانت للغابة قوة غامظة, ليس لها تعريف, لكنها كانت تُساعد دماغ هذا العجوز للتخلّص من الهموم, علّمته الغابة أن القلق لا يزيد من كومة الحطب. رغم ذلك, كان بيرنو مرحاً, اهتزت كتفيه من الضحك أكثر مما ارتعشتا من البرد والصقيع. ذلك أن الفترة التي قضاها في مخيّمات الخشب كانت باردة ومتعبة ورتيبة, وكانت رائحة قطران منعشة تملأ الجوّ. لم يكن السعي وراء لقمة العيش ليحبط روح بيرنو.
كان اسلافه القدماء يمارسون الصيد, مُتوكلين على آلهة الغابة, لكن بالنسبة لجده وأبيه, كانت حُفر قطرانهم قد احترقت, ورغم أنهم كما يقول المثل: (غارقون في الدَين مثل جميع المُستقطرين), إلا أنهم حاولوا قدر استطاعتهم أن ترتجّ أكتافهم من الضحك.
كانت شركات الخشب الحديث التي تطلق مناشيرها صرخات مدوية وتنفث مصانعها أدخنة نتنة, قد جعلت من يوهو بيرنو مُسقّط أشجار, كان قد أسقط الاشجار صريعة مراراً وتكراراً وهذب أولاده واحداً تلو االآخر, حتى سقطوا في سوفاري. أما الآن, فكل شيء وحيد في هذا الكوخ, لقد أسقط آخر شجرة خلقتها غابات الشمال العظيمة. انتزع عنها أغصانها, قطّعها ورصفها بطريقة كئيبة ومتبلدة.
إنها الشجرة الأخيرة! ملأته هذه الفكرة بالأسى. كان قد قضى خمسون سنة من حياته في تقطيع الاشجار والعيش معها, والآن ها هو يُغادرها, حاملاً معه منشاره وفأسه ويقينه بأنه لن يعود مجدداً.
على الرغم من أنه سيواصل العيش في كوخه, أو في مكان آخر, فهو لن يكون حياً, قد يكون أي شيء آخر, مجرد تأخرّ.
مضى يوهو بيرنو, المزارع وقاطع الأشجار, إلى كوخه بخطى متأنية وموزونة أكثر من أي مرة مضت, أدواته تحت إبطيه والطحالب المجففة تشتعل في غليونه الذي كان لا يزال قادراً على حمله مثبّتاً بين شفتيه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأسباب - لويس بورخيس

أربع قصائد للشاعر الفنلندي بو كاربيلان

البرج- قصة قصيرة من فنلندا