حين تحكمنا المشاعر- ماريا يوتوني (قصة قصيرة من فنلندا)




-أنا سعيدة؟ لا, لماذا يجب أن أكون كذلك؟ لا, أنا لستُ سعيدة.
-لكنك تزوجتِ, وكل شيء..
-قلتي تزوجت؟ صحيح, لقد تزوجت, لكن ما حدث كان رغماً عنّي.
-رغماً عنكِ؟
-كونكِ فقيرة سيدفعك لفعل كثير من الأشياء رغماً عنكِ.
-هل أجبرك أبواكِ على ذلك يا فيا؟
-لماذا قد أُعير أهمية لهم؟ ثم أن ليس لي أبوين. كان عندي أم, لكني لم أحظَ بأبٍ قط. ليس هناك ما يكفي من الآباء للعاملات المُستأجرات.
-من أجبرك إذاً؟
-الحاجة, مثلما ترين, حين تكوني فقيرة ستتزوجين دون أن تفكري حتى. ثم أن الفقير يدرك تماماً أن الفعل الغبي هو فعل غبي, فيقوم به على أي حال.
-صحيح.
-ارأيتي, إن معي الحق. اسمعي, هذه هي قصة حياتي:

كان هناك فتى في القرية يدعى آنتي, كان وسيماً ومتورداً مثل زهرة البلسم, كان يصرّ على تسمية مشاعره بالحب, وأنا صرت كذلك, أسمي مشاعري الحب, لكن وبدون سبب كما تلاحظين, أن ندعو مشاعرنا بالحب يجعلها ألطف, ثم أنك حين تكونين صغيرة ستسمين هذه المشاعر أي شيء, حتى لو أسميتيها نكتة. المهم أن هذا الآنتي جلب لي خبز قهوة فاخر واشياء كثيرة أخرى, بالمقابل كنت أنا لطيفة ومتجاوبة مع ما يفعله, ولماذا قد لا أفعل؟ أنا على الأقل أهتم بالآخرين, حتى هذه اللحظة لو قال أحدهم "هذا صحيح" سأردد "هذا صحيح", ومن أنا كي أعترض؟ لكن آنتي راق لي بشكل خاص, فكرت بأن هذا الرجل لي وأظن أنه بادلني الفكرة, لو لا ظهور ماتي الوغد بيننا. لقد حدث وظهر بحياتي بتوقيت سيء جداً وأخذ يميل إليّ. كما ترين, حصلت على عمل في المدينة قبل وجود ماتي هناك. بالبدء لم ألحظه, على الرغم من أني ألحظ الرجال ببديهية, خصوصاً الوسيمين منهم. لكن ماتي لم يكن سوى ولد صغير وتافه, لكن ذلك لم يمنعه من الظهور أمامي فجأة مُتتافهاً:
-فيا.
-أوه, أنت ماتي, صحيح؟
-ماتي.. ماتي, نعم.
-وكيف حالك يا ماتي؟
-كل شيء على ما يرام. خذي.
قال ذلك ودس يديه في يدي ثم هرع عائداً إلى الحظيرة.
يا إلهي, كانت عشرة ماركات! هل أهداني إيّاها, لا أدرِ, ظننتُ كذلك. لقد إعتدتُ الحصول على ستة ماركات كل شهر,  أنفق معظمها في شراء حذاء جديد. فكرت أول الأمر أنني محظوظة بحصولي على هذا المبلغ, فبإمكاني الآن شراء قفازات جديدة لآنتي وصناعة بلوزة عصرية تليق بفتاة المدينة, فلم أكن أملك سوى بضع بلوزات بسيطة من حسن الحظ أنها لا تزال قيد الإستعمال, المهم صنعت بلوزاً جديداً من الحرير الأحمر, كان جميلاً جداً.
ثم تساءلت, ماذا لو أن ماتي أعطاني هذا المبلغ على سبيل الدعابة, وأنه سيطالبني به لاحقاً؟ أخذ الأمر يقلقني, وصرت أشيح بوجهي وأهرب كلما لمحته مقبلاً, لكنه لم يكف عن ملاحقتي. فكرت بأنه في حال قال أي شيء سأمزق البلوزة وأرمها أمامه وأخبره: خذ زبالتك. لكنه لم يقلْ أي شيء, هو لم يملك الفرصة لقول أي شيء لأني كنت أهرب في كل مرة. في إحدى المرات ناداني في وسط الشارع: فيا, لا تهربي.
فلم أهرب, لم اتجرأ أصلاً.
-لأين تذهبين؟
-لشراء وجبة للخنزير من متجر تيهونين, هذا الخنزير الغبي يلتهم كل ما أضع أمامه. لا أريد أن أطعمه بعد, هذا الخنزير.. إنه شيطان حقيقي.
وواصلت التحدّث عن الخنزير طوال الوقت حتى لا يُتاح لماتي التافه أن يُطالبني بالعشر ماركات. لكنه لم يقل شيئاً لحين وصولنا متجر فيك لصناعة الساعات, إقترح قائلاً:
-لندخل يا فيا ونشترِ الخواتم.
أجبته: حسناً.
هل من جواب آخر يمكن لفتاة فقيرة أن تقدّمه؟ ثم أنّي أردت أن أرى هل سيشتريها أم لا. فاشتراها هذا الوغد.
-ها نحن مخطوبان الآن.
قال ذلك أثناء خروجنا من المتجر.
-أظن ذلك. قلت.
لكني فكرت بأن إنتظر حتى استلام دفعة هذا الشهر وسأريك إن كنت مخطوبة أم لا. سأعيد العشر ماركات والخواتم وحتى البلوز. "خذ زبالتك" سأقول ذلك "لن أبيع نفسي مقابل هذه السخافات". لكني إحتفظت بهذه الأفكار لنفسي, فقد يطالب بالعشر ماركات إن صارحته بها, يا للشيطان. المهم, عند عودتي هنأتني مسؤولة الخدم كوني مخطوبة الآن وانحنيت إحتراماً لها, كما هنأني الجميع وأنا إنحيت لهم كلهم. فلم أملك سوى أن أفعل ذلك. قالت لي مسؤولة الخدم مراراً وتكراراً أنها لم تكن تدرِ شيئاً عن الأمر, أخبرتها أني مثلها تماماً وأن ماتي تقدّم لخطبتي فما الذي بإمكاني فعله غير الموافقة؟
-صحيح, ليس بالإمكان فعل أي شيء, ثم أن ماتي رجل طيب.
هو يبدو كذلك حقاً, لكني لا أهتم إن كان طيباً من عدمه, فأنا لن أستفد من طيبته هذه, وكانت الأمور ستكون بخير لو لا دخول هذا الماتي التافه للمخزن حيث كنت نائمة.
-لا تجن يا ماتي!
قلت ذلك بتوجّس,
-سأعيد العشر كورونات بأقرب فرصة. نحن لسنا مخطوبان حقاً.
-لماذا لسنا كذلك؟ قال ماتي.
-ربما لأني بإنتظار شخص آخر.
حين قلت ذلك جن جنون ماتي, وراحت عيناه تطلقان الشرر وصرخ بأنه ليس بإضحوكة.
-توقفي! صرخ. ولا تفتعلي مصائب أخرى, تذكري بأنك وهبتي نفسك لرجل صادق, تذكري, بأني لن أقبل أيّ من هذه الخدع.
ما الذي بإمكان امرأة وحيدة مثلي أن تفعل سوى أن تترك جريان الأمور كما هي. من يدرِ, ربما كان سيركلني في معدتي لو أني قمتُ بأي فعل آخر.
المهم, أمضى ماتي الليل في المخزن وتم الإعلان عن ارتباطنا يوم الأحد التالي. ابتاع لي ماتي فستاناً أسوداً لحفل زواجنا وأعطاني اسوارة تحمل ملاكاً مربوطاً لنجمة من نسيج رقيق. كان هذا النسيج أغبشاً حُفرت جملة ما على جهته الخلفية. كان أمراً لطيفاً, لا زلت اضعه بعناية فوق أدراج غرفتي, وماتي كان كذلك, لقد فعل كل ما بوسعه, احضر عصائر طازجة للحفل وكل شيء. وحين لمته بأنه يبعثر ماله قال إن أسعدت العروس زوجها فإنها تستحق أن تُكافئ بنخبٍ أثمن من الماء.
كل شيء كان سيكون على ما يرام, لو لا أن بعث آنتي برسالة من القرية, استلمتها في صباح يوم الزفاف. لم يذكر شيئاً بخصوص عودته الخريف المقبل ليتقدم لخطبتي. أثناء كل هذا الاستعجال والانشغال بالحفل, شعرت بحاجة ماسة للبكاء كلما فكرت بأن آنتي سوف لن يجد من يتقدم لخطبتها.
بكيت كثيراً يومها, كنت سأنزع عني فستان العرس لو أردت ذلك. حتى أن مسؤولة الخدم أخبرت ماتي أن عليه أن يكون لطيفاً مع هذه الزوجة الحسّاسة.
-سأكون كذلك. قال ماتي. وكان كذلك بالفعل.
ما الذي بكل هذا العالم دفعك لتظهر أمامي أول مرة؟ وما الذي بكل هذه الأرض دفعك لتعطيني بضع الماركات تلك؟ سألت ماتي لاحقاً.
-لماذا؟ ألا تعرفين؟ لأنك كنتِ جميلة ولأن وجنتيك كانتا محمرّتين لحظتها. هذا كل ما قاله.
كان يجب أن يكون آنتي من ينظر لوجنتي وليس أنت. فكرت بذلك لكني لم أقلْ أي شيء. ربما أكون قد نسيت آنتي أيامها, من يدرِ. وكما وعد بالرسالة, لم يأتِ للقرية حين حلّ الخريف, بل جاء إلى منزلنا حيث كنت أقف بجوار موقد هرس بطاطا للخنزير: كنا قد أمتلكنا خنزيراً خاصاً بنا. المهم, ظهر أمامي وقال:
-كرجل صاحب كلمة, جئت أفي بوعدي وأتقدّم لخطبتك يا فيا, لكن يبدو أن الآخرون قد سبقوني؟
-أجل, سبقك الآخرون.
تألم قلبي كثيراً لأجل آنتي, الذي لطالما عرفته طيباً معي. أفرغت يدي من البطاطا وتصافحنا.
-أجلس آنتي, لنشرب بعض القهوة. قلت. دعنا لا نحمل أي أحقاد مما جرى.
-لا, ليس هناك داعٍ أصلاً. قال ذلك وجلس.
فشربنا القهوة سوية, لم يكن مذاقها جيداً, رغم أعتقادي بأني ماهرة في إعدادها. كنت قد وضعت مقداراً سخيّاً من مسحوق قهوة أصلية بالإضافة إلى حفنة كبيرة من الزهورات, فقط لأجل آنتي. لكن مذاقها كان سيئاً. لا أعرف ما الخطأ. ربما كنت مشوشة مذ وُجد هذا الحب, أو سمّه ما تريدين, ليس بالأمر المهم. ففي أحلامنا نظن دائماً بأننا نشتاق لشيء ما, حين نكون صغاراً, حين تحكمنا المشاعر...
____________________________________

*العنوان في النص الأصلي يترجم: عندما نشعر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأسباب - لويس بورخيس

أربع قصائد للشاعر الفنلندي بو كاربيلان

البرج- قصة قصيرة من فنلندا