إيريكا- الكسيس كيفي (قصة قصيرة من فنلندا)




قصة من الأدب الكلاسيكي الفنلندي, نشرت أول مرة عام 1859


بعيداً عن القرية وفي اقصى الغابة المظلمة, يقع منزل مويستولا عند طرف المرج. البيت الريفيّ الثريّ, الذي يمتدحه الجميع, خاصة الفقراء, منذُ أن عُرفَ كمبيت وملجأ لهم, هذا البيت الذي نادراً ما مرّ يوم عليه دون أن يقدم عملاً خيرياً للمحتاجين.
مظهر البيت ملفت للنظر, فإطارات النوافذ البيضاء أضفت شيئاً على سحره, وهناك عشر أشجار غُبيراء في الفناء, كتذكرة بالوصايا العشرة, كأن بطريك العائلة قد بارك المكان وهو يزرع الاشجار ليُمدّ بعمر جمال هذا البيت للأبد. وعلى مسافة قصيرة في الجهة الشمالية يمتد جبل: حافة هذا الجبل محاطة بغابة كثيفة من أشجار الصنوبر. بالتحديق إلى الغابة, يمكن للمرء أن يرى الأشجار وهي تشكّل صوراً غريبة كثيرة صوب السماء; أمّ تُجلس طفلاً على ركبتيها, صدرها عارٍ ووشاحها يرفرف مع هبّات الرياح الشمالية وبابتسامة معلّقة على وجهها تنظر لصغيرها الذي يرضع من صدرها الرزق الإلهيّ. هناك أيضاً شجرتا صنوبر تنتصبان مثل صديقين متعانقين. هناك راكب يحفّز حصانه الذي اندفع لاحقاً بحنق. هناك, في ميدان السماء, أبطالنا العظماء الذين انهمكوا بأفعالهم الشجاعة لمئات السنين. سيوفهم بإيديهم تواجه الاشباح المصنوعة من الغيم.
وفوق كل شيء, تنتصب شجرة صنوبر, هادئة, كأنها ملكة الحكمة كلّها.
لا تزال هناك صورة على قمة الجبل, عجوز مكتئب يحمل عصا جالساً على طرف حجارة, بائسٌ ومُهمل, لكن إلى جانبه يقفُ ملاك الأمل, يهمس في أُذنه, ويُشير تجاه الشرق.
صور كثيرة تظهر هناك, كل ما يتمنى المرء رؤيته. لكن هذا ما رأته المحبوبة إيريكا, البنت الوحيدة لمنزل مويستولا. هذا ما حلمت به العذراء المؤرقة في ليالي الصيف وهي تنظر للطبيعة من نافذة المرسم. توشي نظراتها المتأملة بروحها الملآى برؤية الجمال والتطلُّع للمستقبل البعيد المجهول.
كانت جميلة, عذراء القرية هذه.يغطّي شعرها الغامق جبهتها التي تتوهّج مثل الغيم قبيل الشروق. والعينان أسفل جبهتها كانتا مثل نافذتين في غرفة ملآى بالسلام. إبتسامتها كانت أنيقة كأنها لمسات الصباح المتوهّجة على الشاطئ الشرقي, مليئة بالبهجة وببقايا حزن. كانت تعني الحب والبهجة لوالديها والأمل المتلألئ لكثير من الشباب, وملاك الرحمة للفقراء. كانت تذهب للكنيسة كل أحد, وخلال الاسبوع تكون مشغولة دائماً بمساعدة أمها في شؤون المنزل. من البيت إلى المتجر, ومن المتجر إلى البيت, هكذا كانت تقضي كل صباح ومساء, مجتهدة وهادئة, ومفعمة بالحياة.


 كانت حياة هذه العذراء جميلة, لكن الأجمل كان موتها. موتها المفاجئ الذي أخذها من هذا العالم, مؤكّداً أن امتلاء الإنسان بالحياة يدوم لكن لوقت قصير جداً.
بدأ ذلك في منتصف أحد الأيام, أثناء حرشها لحقلِ التبن, حين شعرت بأن قواها تنهار وأن يداها ثقيلتان مثل حلول المساء حولها. كانت جبهتها تستعتر, الدماء تتخضخض في عروقها, وطنيناً خفيفاً في أذنها. وضعت مذراتها جانباً واتجهت للمنزل. كانت أينما وجهت نظراتها, وجدت أن الطبيعة لا تعكس سوى الحزن لكثرة تفكيرها بالموت.
وفور وصولها البيت, خلعت عنها الوشاح ونامت, ثم أفاقت ونامت مجدداً. كان صدرها يصعد ويهبط, وجنتاها تحترقان وحبات من العرق تنزلق عن جبهتها.
غالباً كانت هذه العذراء صامتة ومقلّة بالكلام, والآن تثرثر بدون انقطاع, متشجّعة بهذيانها:
-أمي, عزيزتي. قالت.
-إصنعي لي ثوباً جديداً, بيّيضيه ولمّعيه خارجاً في المروج الجميلة, إجعليه لامعاً كالشمس نفسها. عليّ أن أغادر لإني أكاد أسمع صوت الجرس يناديني. إنه يقرع أصداءاً مثل دغلٍ تحركه الرياح, مثل دغل بعيد يردد الصدى في رياح المساء.

هذا ما قالته, فامتلأ البيت بالأسى: إغتم والدها وتكدّر مظهره وخاطت الأم الثوب لإبنتها وبكت, بكى جميع الخدم في المنزل. لكن إيريكا لم تبكِ, بل فعلت ما بوسعها لتبدو وكأنها تُداري الموت.

يعلو صدرها ويهبط, وجنتاها تحترقان وحبات من العرق تنزلق عن جبهتها.
وهكذا مرت خمس أيام مشرقة من الصيف وخمس ليالِ جميلة أخرى. وبحلول يوم السبت وعند غروب الشمس, أخذت عينا الفتاة تلتمعان. نهضت عن سريرها, غسلت وجهها وضعت الثوب الذي خاطته أمها ثم أمرت خادماتها بأن يجدلن شعرها الأسود. كانت وجنتاها تتوهجان مثل لهب مستعر وكلامها يخرج لاذعاً. قالت لصديقة طفولتها:
-إصنعي لي تاجاً من الورد. إذهبي إلى شارون يا عزيزتي واقطفا الورد وضعيه في حضنك. أريد وروداً من عند شارون, ذلك أن نعومتها ورقتها سوف تُخمد جبهتي الملتهبة.
إنطلقت صديقتها منتحبة بحرقة إلى الحقل لجمع الزهور. جلبت تاجاً بديعاً من شارون وألبسته رأس الفتاة المُحتضرة. ومثل عروس متوَّجة, جلست إيريكا في سريرها ومالت على صدر أمّها. هناك حيث أرخت رأسها المُنهك, تنهّدت ببطء وما عادت ملامحها تعكس أي صراع, لم تعكس سوى حالة من السلام الكامل.
وبشكل مفاجيء, حاصر ملك الموت قلعة الحياة لوهلة, ثم غادر متوقفاً عن ممارسة مآسيه والسماح لبعض مُريدي الحياة الضعفاء بأن يستمروا وأن يختاروا مغادرة هذه القلعة وقتما شاءوا.
كانت الأم صامتة, والأب كذلك, جميع الواقفين حولها كانوا صامتين, ثم بهدوء صوبوا أنظراهم إلى إيريكا وهي تتنفس بوهن وشفتيها تكتسيان بالزرقة.

الآن يجري حراك نشط في القرية, يعمل المسنون بذات إندفاع الشباب, الجميع مشغول بتجهيز مراسم جنازة إيريكا. التجهيزات منتشرة في كلّ مكان, من البيت حتى المخزن وعلى إمتداد حديقة منزل مويستولا الجميلة.
الأم منهمكة بالعمل في المنزل, البعض ينظّف, البعض يعمل على تخمير الجعّة وآخرون مشغولون في إعداد الطعام عند الموقد الكبير. حتى القيّمة على الخدم كانت منكبّة على إعداد خبز القمح عند طرف المائدة مصوّبة نظراتها إلى النافذة في إنتظار وصول ظيوف من القُرى البعيدة.
أشرقت الشمس من نافذة المنزل الخلفية, وإلتهبت النار في الموقد, لكن إيريكا كانت مُستريحة داخل نعشها الأزرق في المرسم حيث لا يمكن لأحد أن يُفسد عليها سلامها المُقدّس.
من وقت لآخر, تطلّ الأم لترى عصفورة مرجها, لترى هذه الضيفة الباهتة من عالم الموت. أخذت تحدّثها وهي تُعيد ترتيب تاج الزهور على رأسها:
"أرقدي بسلام يا حلوتي
قريباً ستصلين مثواكِ
حيث الجدران مُقلّمة بالطحالب,
والرمال الناعمة تُغطّي الأرضيّة.
جيّد أن ترتاحي,
فلا يعد ثمّة داعٍ لتقليبك,
ولا حاجة لتخفيف الآم كتفيك".


بهذه العجلة قالت كلماتها ومسّدت شعر إبنتها, ثمّ عادت لما كانت تقوم به.
حلّ المساء وضيوف القرى البعيدة أوشكوا على الوصول, كانت قرقعة العربات ورائحة التراب تتباطآن على الطريق المتعرّج. وفي المنزل كان الهرج يزداد: صفق الأبواب ونباح الكلاب وصهيل الأحصنة. ذهب البعض لإستقبال الضيوف والبعض لتحضير بعض الزهورات وآخرون توجهوا للغابة لجلب بعض أصناف من أوراق الشجر.
وصل جميع الضيوف بملابس الحداد: الكبار والصغار بمختلف طبقاتهم الإجتماعية. والفتيات الصغيرات اللاتي ربطن طوقاً من الأزهار حول رقبتهن كن يلعبن في باحة المنزل. كان هناك الكثير من النشاط والضجّة والجلبة في المنزل الذي سيحتضن مراسم العزاء, إلا إيريكا كانت مُستريحة داخل نعشها الأزرق في المرسم.
غطى الليل الأرض بأجنحته, كم هي جميلة أجنحة ليالي الصيف: رقيقة ومتألقة بين الوديان, تحوم فوق الزهور الصغيرة لتبلّلها بحبات ندى فضيَّة. في البيت حيث يُقام العزاء, يجلس الجميع بهدوء, سلام بديع يعمّ المكان فلا تسقط ورقة واحدة عن أشجار الغبيراء. لا يعكر صفو هذه الليلة سوى هدر الشلالات في البعيد أو طائر السُبَد مرفرفاً في الفضاء.


نوقّف قليلاً وتأمل الطبيعة بهذه الليلة البهيجة, إنها بين وقت وآخر تشرق فجأة ثم تعتم. وفي الجنوب الغربي تبرق السماء دون رعد. لكن إنظر صوب الشمال حيث الجبل, وسترى أبهر منظر, عند نهاية الغابة, وداخل تاج يشبه غيمة, تجلس روح الفتاة العذراء بخفة ووقار أميرة. لا تزال جالسة بصمت, متكئة بمرفقها على غيمة تصوّب نظراتها إلى مويستولا.
حين أبرقت السماء أنارت وجهها وخلّفت شيئاً من الجمال في عينيها. كان وجه إيريكا قد إزداد جمالاً. كانت تضع تاجاً من الزهور على رأسها, ربما هو ذاته الذي جدلته لها شارون, فمثل هذهِ الزهور لا يمكن أن توجد سوى في حقول شارون. كان ثوبها أبيض مثل ثلج, والوشاح المنساب أسفل نهديها يشبه بوابة للفردوس. وملامحها بدت أكثر هيبة مختومة بإبتسامة حييّة مرتسمة على شفتيها.
كانت لا تزال تتلاشى ببطء, تنظر برقّة إلى بيتها القديم, وبذات الرقة, بادلتها نوافذ المنزل النظر. واصلت النظر متردّدة, هذه التردد الذي يليق بها, تلك التي ستجد اللذّة الأبدية, التي ستهتدي إلى أرض الأمل. لكن أنظر! لقد رحلت, إختفت مثل ومضة, لقد غادرت مويستولا
إلى الأبد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأسباب - لويس بورخيس

أربع قصائد للشاعر الفنلندي بو كاربيلان

البرج- قصة قصيرة من فنلندا